فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

لما آذن قوله: {اعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ الله غفور رحيم} [المائدة: 98] وقوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} [المائدة: 99] بأنّ الناس فريقان: مطيعون وعصاة، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين.
فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها.
قال الأعشى:
ولستَ بالأكثرِ منهم حصًى ** وإنّما العزّة للكاثر

وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي:
تعيّرنا أنّا قليل عَدِيدنَا

وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال:
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدد ** ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا

قال السديّ: كثرة الخبيث هم المشركون، والطيّب هم المؤمنون.
وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عددًا من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع، وقيل: أريد منها الحرام والحلال من المال، ونقل عن الحسن.
ومعنى {لا يستوي} نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة.
والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول، فإنّ جعل أحدهما خبيثًا والآخر طيّبًا يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب.
وتقدّم عند قوله تعالى: {ليسوا سواء} في سورة آل عمران (113).
ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثًا قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين، ولذلك قال: {ولو أعجبك كثرة الخبيث}.
فكان الخبيث المقصود في الآية شيئًا تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته.
فقوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} من جملة المقول المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم أي قُل لهم هذا كلّه، فالكاف في قوله: {أعجبك} للخطاب، والمخاطب بها غير معيَّن بل كلّ من يصلح للخطاب، مثل {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام: 27]، أي ولو أعجبَ مُعْجَبا كثرةُ الخبيث.
وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية.
وليس قوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيرًا ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرًا فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة.
والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {فلا تُعْجبْك أمْوالهم ولا أولادهم} في سورة براءة (55).
وفي تفسير ابن عرفة قال: «وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له: هذه تدلّ على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين، وهما متكاملان.
وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة.
فقوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلاّ للخبث، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه.
ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه»
. اهـ.
وقال ابن عاشور:
والواو في قوله: {ولو أعجبك} واو الحال، و{لو} اتّصالية، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملْءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به} في سورة آل عمران (91).
وتفريع قوله: {فاتّقوا الله يا أولى الألباب} على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب، والبحث عن الحقائق، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يُعرف ما هو تقوى دون غيره.
ونظير هذا الاستدلال استدلاللِ العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: {فاتّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته.
ولذلك قال هنا: {يا أولي الألباب} فخاطب الناس بصفة ليؤمىء إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكِّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث.
ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعًا} [الإسراء: 90] الآية، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيرًا.
وقوله: {لعلّكم تفلحون} تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

قال رحمه الله:
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهم أن الخير والشر لا يستويان، وأن الخبيث والطيب لا يتساويان، فلا يمكن أن يكون معاملة أهل الخبيث كمعاملة أهل الطيب، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك، ويبينه للناس على أنه جزء من رسالته يبينه للناس ويعرفهم به أو يذكرهم إياه وهو ما ترتضيه الفطر السليمة وتدركه العقول المستقيمة، وهو بيان لطبائع هذا الوجود.
والخبيث هو الأمر المستقذر، إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة، وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث، فجاءه الخبث من سببه، إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه، وإما لأنه مخل بالمروءة، فالمستقذر هو الخبيث، وهو حسى، وأدبى، والطيب ما يكون حسنا في ذاته وفى طريق كسبه، وترضاه النفوس المستقيمة والعقول المدركة، وتأتى الشرائع بإباحته.
وإذا كانت تلك هي القاعدة الإنسانية العالية، والعادلة، فإنه لابد من عقاب المسىء، وثواب المحسن، ولكن الباطل له لجاجة وفيه كثرة، لأنه مجاوبة للذائذ الشهوات، وما يستلذ يكثر، وما يطاوع الهوى يزيد، وما يكون فيه صبر وضبط نفس يقل، هان كان طيبا، ومهما يكثر الشر لن يتساوى مع الخير، ولذا قال سبحانه: {ولو أعجبك كثرة الخبيث}. أى ولو أثار نفسك وعجبك واسترعى نظرك كون الخبيث كثيرا، إن الشر مهما يكثر لا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى به الأخلاق، ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير بل إنه كلما كثر، وجبت مقاومته، بشدة وبمقدار كثرته، تكون شدة المقاومة، وذلك فرق ما بين شريعة الله تعالى وقوانين العباد، فإن قوانين العباد، تستمد قوتها من الكثرة، وعرف الناس، ولو كان فاسدا، أما شريعة الله، فهى للخير المحض، وإذا كثر الشر لا تتبعه، بل تقاومه، ولا ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير، ولا يمكن أن ترضى، وإلا ما كانت رسالات الرسل، ولا جهاد الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين، ولذلك أمر سبحانه بمقاومة الشر مهما كثر، فقال تعالت كلماته: {فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} وقال الله تعالى في الآية السابقة: {لا يستوي الخبيث والطيب} وأن هذه الجملة السامية تصلح الكبرى لقياس طويت صغراه، وهى مفهومة من قوله تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور زحيم}. إذ الكلام يكون هكذا ولكلام الله تعالى المثل الأعلى الذي لا يصل إلى مثله البشر.. لا مساواة بين الخير والشر، والله يعاقب على الشر، ويثيت على الخير، والنتيجة لهاتين المقدمتين، أن الأشرار سيعاقبون، والأخبار سيثابون لا محالة، ولازم هذه النتيجة أن يحذر الناس فيرجوا ثواب الله ويخافوا عقابه، وذلك الحذر يكون بتقوى الله تعالى بامتلاء القلب بخشيته، والعمل على اتقاء عذابه؟ ولذا قال: {فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} أى إذا كان كل امرئ مجزيا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فاملأوا قلوبكم بتقوى الله وخشيته وملاحظة أنه يعلم ما تبدون وما تكتمون، فاعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه، فاعلموا أنه يراكم، وهو يعلم سركم وجهركم، فإن خشية الله تعالى في أعمالكم على هذا النحو يرجى منها الفلاح والفوز؟ لأنها سبب لذلك، فالرجاء فى: {لعلكم} من العبيد، لا من الله؟ لأنه سبحانه يرجى ولا يرجو إنه بكل شيء عليم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}.
{أحل لكم صيد البحر} أي مصيداته. ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار، وجملة ما يصاد منه ثلاث أجناس: الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة: حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون: حلال. قوله: {وطعامه} العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه: يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. وقال جمع من العلماء: الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها. فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه. وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف. قال الشافعي: السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» {متاعًا لكم} في الحضر طريًا و{للسيارة} في السفر مالحًا. وانتصب {متاعًا} على أنه مفعول له ولكنه مختص بالطعام. وقال الزجاج: انه مصدر مؤكد لأن قوله: {أحل لكم} في معنى التمتيع {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} قال العلماء: صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء. واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري وإسحاق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية، ولما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله.